السبت، 17 نوفمبر 2012

سيرة مولانا الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الله الإجيجبي

أحد أكابر مقدمي الطريقة التجانية الإبراهيمية، أجازه فيها وقدمه شيخه ووسيلته إلى ربه الشيخ إبراهيم انياس رضي الله عنهما (شعبان 1371ﻫ)
ينتمي إلى أسرة مشيخة صوفية معروفة في ولاية لبراكنة، ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسن رضي الله عنه ابن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ولد بعد وفاة والده (الشيخ عبد الله الكبير) الذي كان قد أخبر

مكاشفة عما سيكون لهذا الولد من شأن عظيم حين قال إنه قطب زمانه وأن اسمه محمد، فجمعت له والدته الاسمين اسمه واسم والده (عبد الله) جريا على عادة الناس من تسمية المولود باسم والده إذا توفي قبل مولده، فصار اسمه محمد عبد الله وأما اسمه الشيخ عبد الله فأول من أسماه به شيخه الشيخ إبراهيم رضي الله عنه تدرجا نحو ظهور صدق مكاشفة والده.
حفظ القرآن وأجيز في روايتي ورش وقالون عن نافع وهو يافع فالتحق بمحاظر ذات شهرة واسعة (محظرة عبد القادر بن محمد سالم المعروف بقارِّ، ومحظرة القاضي محمذن بن أحمدُّ فال وغيرهما..) نهل فيها من العلوم الشرعية واللغوية المتاحة إلى أن ارتفعت همته العالية واشتاقت نفسه الزكية إلى معرفة الله تعالى، فتطلَّب لذلك الغرض المشائخ شيخا شيخا يحل بهذا ويرتحل ميمما ذاك أملا في درك مبتغاه أو مرجعية تَعِدُ به ولو بعد حين.. ولكن هيهات.. محيط صوفي وليس له من الصوفية إلا اسمها، قد جف معينه وعُقِّمت أساطينه، وأمة عامية يستعبدها حيض الرجال، قد ضُرب بينهم وبين معرفة الله تعالى بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب..
فأنَّى للشيخ عبد الله رضي الله عنه أن يبقى حبيس هذا المحيط الفارغ من ثمرة التصوف وروحه والتي هي معرفة الله تبارك وتعالى، عالما كل العلم بأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولكنه بقدر ذلك أحرص على حسن الظن بالله وبعبيد الله فلم يكن لينكر دعوى مقام أضافه لنفسه عبد من عباد الله أو أضيف له حتى يتبين صدقها أو عدمه
والدعاوي ما لم تقيموا عليها        بينـات أبناؤها أدعيـاء
بهذه الخواطر والأحاسيس والرؤى تحدى الشيخ عبد الله محيطه كل محيطه حتى ذويه وتلامذة والده المخلصين الذين لا يشكون مطلقا في صدق مكاشفات والده إذ هو عندهم في غنى عن كل هذا البحث. ولكن أين البينة؟ والبينة عند الشيخ عبد الله ليست في سوى التحقق بمعرفة الله.. غاية تستدعي مزيدا من البحث والتقصي..
لذلك فإنه لم يجد بدا من تلبية النداء الملح المنبعث من أعماقه، نداء القلب المحب الشغوف بمعرفة المحبوب، ونداء العقل الكبير الرافض لقضم القشور والركون إلى موات القلوب وأخلياء الصدور والداعي إلى مزيد من البحث والترحال... ترحال ألقى عصاه أخيرا بين يدي الشيخ إبراهيم رضي الله عنه وتوج بالفتح الأكبر الذي كان ينشده ويبحث عنه. ولقد كان قبل ذلك، في عهود بحثه واستجدائه، حين يخيفه قحطُ المحيط عن غذا الأرواح والقلوب وشبحُ اليأس من نيل المطلوب، يجد في التشبث بمطلوبه، ولو ضن الأفق بالتلويح به، راحة بال واطمئنان:
ففي الذات صمتي واجب غير أن لي إذا رمتُ أن أُبدِي  خطابا  تحيرتْ ولكن  بقلبـي من هواها  وحبها فهل لِيَ بعد الصمت  فيهـا  تكلُّـمٌ        فؤادا بها ولهــانَ  ذا هيَمَـانِ نجائب فكري فاستراح لسانـي رسيـسُ هوى لم تُبْلِهِ الملَـوان وهـل  لِيَ  من بَعد  البعـاد  تدان
ويجد في التأنس بمحيطه الداخلي النفسي وما فيه من حركية وشوق انشغالا عن محيطه الخارجي وما فيه من دواعي الجمود والإحباط
تسليتُ عن أرْوَى  فلم أسلون أروَى وما كان من أروى  اشتيـاقي  وإنما وما كنت أشتاق  الظباء ولا المهى ولكنمـا شوقـي إلى  الذات  ليتني وإنِّيَ  لا  أهـوى   سـوى  الذاتِ  إننـي        وأبديت ما أشكو فلم تنفع الشكوى أورِّي بها عن عالِم السـر والنجـوى ولا الأشنبَ الألمى ولا الفـاترَ  الأحوى عن الذات لا أسلو فنـاء ولا  صحوا سوى الذات لا أهوى  سوى الذات لا أهوى

ولما تعددت المشارب واختلفت، وعلم كل أناس مشربهم، وشرب الشيخ عبد الله ونهل كان مشربه رضي الله عنه المحبة، وهي الباب الذي دخل منه إلى الشيخ إبراهيم... أحب الله تبارك وتعالى فأحب حبيبه الأعظم خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وبمحبته أحب خاتم أوليائه، وأحب خليفته المطلق صاحب فيضة الختم التجاني، وبحبه أحب جميع التجانيين كل بقدر محبته للشيخ رضي الله عنه ولا تأخذه في ذلك لومة لائم، وبذلك نال تقدير الجميع إكبارا وإجلالا لما يرون فيه من سر الشيخ وبركته، وهو إلى ذلك محبوب بالطبع لدى كل ذي قلب سليم لما امتاز به من لين طبع وتواضع وخُلق كريم. ولقد عبر الشاعر محمد الحافظ بن أحمدو عما يغمر المرء من سعادة وارتياح وانشراح صدر بين يديه حين قال:
ما الشيخ عبد الله  إلا  نفحـة    من رحمة قد صورت تصويرا
إن تلقَه  تذكـرْ إلهك  رغبـة    وتجدْ به  وصلا إليه جديـرا...
إلى أن يقول:
ولك الهدى والنصر من موليهما    "وكفى بربك  هاديا ونصيرا"
أدخل الشيخ عبد الله رضي الله عنه بعد أن أجازه الشيخ إبراهيم وقدَّمه، الطريقةَ التجانية إلى محيط لم يكن يسمع عنها ولا عن صاحبها، فكان مجيئه بها ثورة عارمة وقلبا للموازين.. وانقسم الناس.. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا .. فمنهم من اهتدى وانخرط في سلك الشيخ التجاني رضي الله عنه وشاهد في قرارة نفسه البون الشاسع بين ماضيه وحاضره، ومنهم من صد وأعرض وأخذته حمية جاهليته إذ كيف يتبع شيخا من "السود السينغاليين"؟ وكأن "البياضين" أحق بالولاية والمشيخة! تعصب أعمى وعنصرية مشينة أعمت عن قوله تعالى: "..إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وكل من هؤلاء وأولئك يرى نفسه أسعد الناس بموقفه، وكل يعمل على شاكلته، وكل سيرى الله عمله ورسوله والمومنون.. ورحم الله السيد محمد عبد الرحمن بن انجبنان (وليس من أتباع الشيخ ولا حتى من محيطه) كان قد قال في قطعة من "الشعر" الحساني:
أمنادمْ هاديـهْ اللَّ  بيـكْ        يِستَهْدَ يالشيخ أُ يِبْغيــكْ
يعَبْدَ اللهِ حَـكْ أُذيــكْ        يعرَفْـهَ  يوْمْ  التَّـــلاَقِ
اُلاَ كَرْهَكْ ما ردَّيتْ اعليكْ        كُونْ إلِّ لُ  ربُّ  شــاقِ
جابَكْ  مُلانَ  مِتْمـــادِ        إعْلَ يمْ الدِّين إلْ بـــاقِ
لاهِ  يِهدِ بيكْ  إلْ  هــادِ        لاَهِ يِشْقِ بيكْ الشَّـــاقِ
وأخيرا فليعذر القارئ هذا الإيجاز المخل.. فليس المقام مقام تفصيل وإطناب، وكيف يسلط الضوء على شخصية لم ترد لنفسها اللمعان في سماء الأعلام ونسجت حولها من لبنات التواضع والخفاء جدارا منيعا يعز اقتحامه حتى على ذوي البصائر والفهوم يقول عن نفسه:
خفيتُ عن العوالـم فيه حتى        كأني قد خفيتُ عن الخفاء..
توفي رضي الله عنه ضحوة الإثنين الحادي والعشرين من رمضان الأبرك صائما ساجدا لله تعالى عام 1410ﻫ. وللمزيد من الإطلاع على شريط حياة الشيخ عبد الله رضي الله عنه راجع كتاب "الشيخ عبد الله رضي الله عنه وحياته الصوفية" لمؤلفه الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق