الأربعاء، 15 يناير 2020

الحجيات الشنقيطية عبر وسط إفريقيا (ملاحظات أولية حول رهانات الخطاب


د. فاطمة محمد محمود عبد الوهاب استاذة محاضرة بجامعة نواكشوط
 fatima.wahabe@gmail.com
***********************

شكلت رحلة الحج (برمزيتها ومقصديتها وطبيعة القائمين بها خطابا ومنزلة ومطامح...) احدى أكثر أليات الاتصال الثقافي
والاجتماعي اتصالا ونجاعة بين المجتمعات الاسلامية داخل افريقيا وخارجها من جهة، كما مثلت تلك الرحلة نمطا مخصوصا لتوجيه الخطاب حول الفضاءات التي انطلقت منها والتي عبرتها وتلك التي انتهت اليها من جهة ثانية.
وبما أن منطقة وسط افريقيا كانت في مراحل مختلفة من التاريخ ملتقى لتفاعل أقوام وأعراق من مختلف سكان العالم
القدي1، فمن الطبيعي أن تشكل نقطة تقاطع مسارات الحجيج، من زوايا القارة في ذهابهم وايابهم بين ديارهم الصلية وبلاد الحجاز.
وقد اجتاز الشناقطة في حجياتهم مناطق متفرقة من العالم الاسلامي عبر مسارات متعددة شكل ما يعرف بالطريق
الشرقي المار بكثير من بلدان غرب ووسط افريقيا واحدا من أهمها. ويعبر الحجاج في هذا المسار بلاد السودان (مالي حاليا) مارين بالوسط الافريقي (النيجر فنيجيريا فتشاد فالسودان) متجهين الى الديار المقدسة.
وقد دخل الحجاج خلال عبورهم لتلك المناطق في علاقات مع السكان (الصليين والمهاجرين)، ووصفوا المسالك والممالك والتضاريس والمناخ، والمجالس والمؤسسات...
وحمل أولئك الحجاج عن الانسان والمكان في مناطق عبورهم تلك ارتسامات ومشاعر وتمثلات صاغوها كتابة حينا
وعبروا عنها مشافهة أحيانا، فتشكل من كل ذلك ركام من الدبيات المسجلة بوسائط مختلفة، فمنها المكتوب ومنها المنقول عبر الذاكرة.
1 - للوقوف على نماذج من ذلك التفاعل وخاصة بين العرب والفارقة، يمكن الرجوع الى: د. أحمد عد الداي محمد حسين، وسط افريقيا ملتقى الهجرات العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ضمن دراسات تاريخية مهداة للعالم والمؤرخ والانسان الستاذ الدكتور/ السيد فليفل، جامعة القاهرة، 2013، صص530-570.
التقدي
1
وانطلاقا من هذا التباين ارتأينا انتقاء عينة اختبارية من المتن الموسع للرحلات الشنقيطية تمثل في ثلاث رحلات
لحجاج غطوا تقريبا النصف الثاني من القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر الهجريين/النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين. وهؤلاء الحجاج الثلاثة هم:
✓ الش يخ س يدي مولود فال (المولود س نة 1187هـ/1773م والمتوفى س نة 1267هـ/1851م)، ✓ الش يخ محمد يحيى بن ابوه (المولود س نة 1310هـ/1892م والمتوفى س نة 1349هـ/1930م)، ✓ الش يخ محمد المين الش نقيطي الجكني (المولود س نة 1322هـ/1905م والمتوفى س نة 1394هـ/1974م).
وقد توخينا في انتقاء هذه العينية الاس تجابة لجملة من المعايير أهمها: ✓ الامتداد الزمني حيث تغطي رحلات هؤلاء الحجاج القرنين الماضيين،
✓ تنوع وسائط النقل حيث انتقلت الرحلة الولى عبر الذاكرة، بينما تم تدوين الرحلتين الخيرتين كتابيا (ولو لم يرد نصاهما مكتملين).
ولعل من أهم ما يميز ركام الحجيات الش نقيطية-على تباينه الظاهري- وجود مكونات مطردة واستراتيجيات ش به موحدة
أطرت خطاب الرحلة الحجية.
وس نحاول في هذه المعالجة غير المتأنية أن نلمح بشكل أولي الى أبرز الرهانات التي شكلت أو وجهت خطاب الرحلات
الحجية (ممثلة بالساس في المتن المحدد أعلاه) من خلال محورين يتوزعان -في تصورنا- بؤر توجيه الخطاب، أما أولهما فتقوم استراتيجية الخطاب فيه على العبور ذاته أي على امكان وامكانيات ومشاهد الرحلة، ولذلك سميناه خطاب العبور؛ أما ثاني المحورين فيعتمد-خلافا للول- على تثمين قوة عبور خطاب الحاج ومستوى تعاطي الناس معه وقبولهم اياه ومدى نجاحه في اكتساب مكانة لنفسه وقومه وبلده، أي ما تحقق للحاج من مكاسب دينية وثقافية وعلمية، وما تركه من أثر طيب حيثما حل أو
ارتحل.
أولا. خطاب العبور
نقصد بخطاب العبور كل أشكال التعبير المتعلقة بمسار الرحلة ووسائل النقل المستخدمة خلالها، والمشاهد التي رأها
الحجاج وأشكال التفاعل التي أقاموها مع محيط الرحلة على مختلف المستويات. فخطاب العبور اذن استطلاعي يشمل مختلف الصيغ التعبيرية الهادفة الى تقدي هذه الرحلة منطلقا ومسارا ورفقة ومألا، بما في ذلك المظاهر المادية والطبوغرافية والبشرية.
ويمكن هنا أن نتوقف -ضمن العناصر المشكلة لخطاب العبور- عند المكونات التالية:
2
1. وسائلالنقلالمستخدمة
لا تكاد تخلو أي رحلة من حديث -مستفيض أو مختص- عن الوسائل التي استخدمها الحاج عبر كامل الرحلة، فمسألة
الراحلة كانت من المسائل القوية الحضور في الخطاب الحجي، وقد تعددت الوسائل حسب الظرف الزماني، وتبعا لتعدد محطات الرحلة ذاتها. ومن أهم تلك الوسائل:
أ. الوسائل التقليدية
تباين مس توى الاعتماد على وسائل النقل التقليدية كالجمال والخيل والحمر والثيران...، بتباين المراحل التاريخية التي أدى
فيها الشناقطة الحج. ففي حين اعتمد الحجاج أواسط القرن الثالث عشر والنصف الول من القرن الرابع عشر الهجريين على الوسائل التقليدية في أغلب مسار رحلاتهم1، فان استخدامها في المراحل اللاحقة ينحص غالبا في مجال محدود. وهكذا أصبح ركوب الجمال منحصا في مناطق الداخل الموريتاني، والمناطق الشبيهة ايكولوجيا (الامتداد الصحراوي).وكثيرا ما ينتهيي الحجاج
في هذه المرحلة ببيع جمالهم مستغلين ثمنها في تأجير السيارات2. ب. الوسائل الحديثة
تختلف وتيرة وموقع اس تخدام وسائل النقل الحديثة كالس يارة -وغيرها من وسائل النقل الخرى- كذلك حسب المراحل
الزمنية والتجارب الشخصية لكل واحد من الحجاج. فبينما يركب الشيخ محمد المين الشنقيطي السيارة ابتداء من دخول بلاد السودان (جمهورية مالي حاليا)3، يواصل الشيخ محمد يحيى بن ابوه استخدام مختلف وسائل النقل التقليدية (الجمال والحمر
والثيران...) حتى دخوله سوكي بنيجيريا، حيث استقل "المربعة"4 وبعدها البابور (القطار).
وقد توقفت الرحلة الحجية عند وصف أشكال السيارات، وطبيعة تعامل أصحابها مع الركاب، كما تعرضت للرفقة المصاحبة أثناء استقلالها...5.
1- تشير الرواية الشفوية الى استقلال الشيخ سيدي مولود فال (ت. سنة 1267هـ/1851م) في رحلته الحجية للجمال والجياد، وكذلك يصح محمد يحيى بن ابوه (1349هـ/1930م) فضلا عن تلك الوسائل ومثيلاتها أنه ركب السيارة والقطار. انظر: محمد يحيى بن ابوه، الرحلة الى الحجاز، دار الرضوان، نواكشوط- موريتانيا، 2013، صص.(99، 137، 139، 140). 2 - انظر مثلا: محمد المين الشنقيطي الجكني، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، دار الشروق، جدة/العربية السعودية، 1403هـ/1983م، ص.90. 3 - محمد المين الشنقيطي، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص.90، 91. بل انه يذكر أن أحد مضيفيه وعده ورفقته أن ينقلهم بالطائرة الى جدة اذا أقاموا معه شهر رمضان (ص.94). 4 - لم تمكنا سياقات الورود بشكل قطعي من أن نحدد على وجه اليقين ما هي "المربعة"، أيطلقها على نوع من أنواع السيارات، أم يقصد العربة التي تجرها عادة الدواب، وبالتالي فتصنيف المربعة ضمن وسائل النقل الحديثة يعتمد على ما يصدق عليه هذا المفهوم. انظر: محمد يحيى بن ابوه، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق، ص.137. 5 - نجد ذلك خاصة عند محمد المين الشنقيطي في مختلف مراحل رحلته.
3
وتعتبر الباخرة أداة حتمية لاجتياز مراحل من رحلة الحج العابرة لمناطق افريقيا الوسطى نظرا للطبيعة الجغرافية التي
تشكل المسالك المائية أحد مكوناتها، حيث يستدعي الانتقال من القارة الى الحجاز عبور البحر الحمر. وقد عبر من رجعنا الى رحلاتهم الى الحجاز من السودان، فكانوا يسافرون بحرا من ميناء "سواكن"1. وقد تحدث الحجاج عن تجربتهم مع القطار (البابور)
والسفينة (أو بابور البحر)2 باقتضاب حينا، وبتفصيل أحيانا أخرى رابطين حديثهم عنها بطبيعة مسالك ومحطات الرحلة.
2. المسالك والمحطات
شكلت المسالك الواقعة على مسار الحج الشرقي هذا أحد أهم عناصر خطاب العبور، بما تجسده من محطات وتجارب.
فتوقف الحجاج عند الملامح المشكلة لتلك المسالك (المناخ، النباتات، المطار، البنية التضاريس ية...)، كما وصفوا الحدود الجغرافية بين الدول، وكيفية ادارتها والطرق التي اجتازوا بها... معتنين على وجه الخصوص بالطبيعة المميزة للسكان.
واذا كانت رحلة الشيخ سيدي مولود فال (أولى الرحلات الحجية التي اعتمدناها متنا اختباريا لهذه المعالجة) لم تصلنا
بشكل مكتوب يتوقف عند الجزئيات، فان روايتها الواردة في منقبياته لم تهمل هذا الجانب وان ورد مجملا يكتفي برسم المسار العام3.
1 - انظر خط السير الملحق بهذا البحث. 2 - تحدث بعض الحجاج عن بابور البر (القطار) وعن بابور البحر (السفينة البخارية). انظر مثلا محمد يحيى بن ابوه، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق، صص.141 و142. 3 - يقتص هذا المسار داخل القارة الافريقية على: مالي فنيجيريا فتشاد فالسودان. انظر:
✓ عبد الله الشيخ الهادي السيد مولود فال، طوالع السعود في حياة ومناقب غلام التجاني أبي السعود، تحقيق وتقدي الشيخ التجاني بن الشيخ الهادي بن س يدي مولود فال، وزارة الوقاف والشؤون الاسلامية، المملكة المغربية، 2008، ص72.
✓ وترسم رواية حفيده عبد الله الس يد طريق رحلته بشكل أكثر تفصيلا، حيث يقول ان طريقه "هي الطريق الافريقية العادية: مالي (تمبكتو)، فبوركينافاسو، فنيجيريا (يولا، كنو)، فالكمرون (مروة)، فتشاد (موندو، ساره، أم تيمان، أبشه)، فالسودان (جنينه، الفاشر، البيض)". مقابلة معه عبر الواتسأب، بتاريخ 7/ 11/ 2019.
4
وقد عكست الرحلتان المتبقيتان (رحلتا الشيخ محمد يحيى بن ابوه والشيخ محمد المين الشنقيطي) بتفصيل متفاوت
جزئيات المشهد الطبيعي والبشري. ففي حين يقتص الول على تحديد نقاط العبور1 مكتفيا بوصف بعضها وصفا عاما (خلاء، فلاة...)، فان الثاني يعتني فضلا عن تفصيل المحطات المقصودة والاضطرارية2 بتفاصيل المشهد الطبيعي3.
وعلى العموم فقد لفتت نظر أصحاب الحجيات -بمس تويات مختلفة- غزارة المطار وتنوع النباتات الكثيفة والتربة الطينية
الوعرة، ومطبات الطرق، كما تناولوا -باختصار حينا وباسهاب أحيانا- تجربة اكتشاف الخر بمس تويات مختلفة سواء على مس توى البنية الجسدية أو من حيث درجة تباين الرؤى والمعتقدات مع القوام والثقافات السائدة.
3. القوام والثقافات
من أهم المور التي تلازم الانتقال في المكان -بغض النظر عن وجهة وطبيعة ذلك الانتقال- التعرف على مناطق
وأساليب حياة جديدة والدخول في تجارب مختلفة عن ما ألفه الانسان في دار مقامه. وهو ما جعل القوم يحثون على السفر والترحال ويعتبرونهما مقدمة وسائل النجاح في الحياة4.ولذلك فمن المور التي تبدو أساسية في خطاب أصحاب الرحلات الحجية الحديث عن تجربة الاحتكاك بالخر، وطبيعة العلاقة التي ربطتهم بالناس في مختلف محطات السفر والصعوبات التي واجهتهم في بنية تضاريسية غريبة عن بيئتهم الصحراوية الجافة. فقد أبرزوا ما استحسنوه أو استهجنوه من طباع الناس ومسلكياتهم وطرائق
عيشهم وأشكال تعبيرهم.
ومن هنا تعددت مظاهر ومشاعر الاحتكاك بالخر، فهناك مجرد التعرف الولي الذي يأتي في شكل وصف مقتضب
لمظاهر القوام الذين يمر الحجاج بهم، وهناك مستوى أخر يتعرف فيه الحاج على بعض المسلكيات والطباع الخاصة التي تكون محل اعجاب واشادة حينا أو تلقى استهجانا وذما حينا أخر.
1 - يحدد ابن ابوه بشكل تفصيلي مسار رحلته المار بمالي فالنيجر فنيجيريا فالكمرون فتشاد فالسودان. انظر خط السير الملحق بنص الرحلة (ص143)، والذي أوردناه ملحقا هنا باعتباره خط سير نموذجي لسالكي هذا المسار الحجي. 2 - عدد محمد المين الشنقيطي في رحلته داخل المجال الافريقي احدى وثلاثين محطة كانت أخرها محطة سواكن (ص254) التي عبر منها مع رفقته البحر الحمر متجهين الى مدينة جدة. ولا تخرج هذه المحطات في تعرجاتها الكبرى داخل البلدان الافريقية عن المسار العام لطريق الحج الشرقي. انظر خط السير الملحق. 3 - كذكر نسبة القرى الى القفار، أو وصف المباني من أعرشة وأخصاص، أو الطبيعة الطبوغرافية للمنطقة، أو نوع التربة...انظر محمد المين الشنقيطي الجكني، الرحلة، مصدر سابق، صص 90، 91، 100، 103... 4 - يقول الامام الشافعي في المعنى:
تغرب عن الوطان في طلب العلا وسافر ففي السفار خمس فوائــــد تفـرج هم واكتسـاب معـيشـــــــــة وعـــلم وأداب وصـحــبـة مــــاجد
5
ويمكن أن نميز مبدئا بين نوعين ممن تحدثت عنهم الرحلات: أما أولهما فهم أبناء جلدتهم ممن بعدت بهم الدار، فأقاموا
بالمناطق المزورة، لدواع مختلفة (تجارة أو دعوة، أو غير ذلك)؛ وأما الصنف الثاني من الناس، فهم سكان تلك المناطق، ممن لا عهد للحاج بهم.
أ. المقيمون من الشناقطة
اعتبر الحجاج في حديثهم عن الالتقاء بتجار ومقيمين من أصول موريتانية والتعرف عليهم نوعا من الصدف السعيدة،
وقد أشادوا بأخلاقهم وكرمهم وما لقوه لديهم من تشجيع وعون1. ويكون الاحساس بالغبطة -في العادة- مضاعفا عندما يكون أولئك ممن يشتركون معهم الانتماء القبلي2.
وتتفاوت التجارب الحجية في اهتمامها بتفاصيل أوجه حفاوة السكان. ففي حين لا تحتفظ المرويات عن هذا الجانب
بالنسبة لحجة الشيخ سيدي مولود فال -وهي المصدر الوحيد عن هذه الحجة- بغير عبارات عامة تفيد باكرامه، بل وأخذ ورده حيثما حل3؛ فان الحجيات المكتوبة تسرد تفاصيل ومظاهر الاحتفاء والتقدير (اكراما للوفادة، واهداء للمال، وتوصيات مكتوبة لمن يقومون بذلك...). ولا يقتص وصف طرائق الاستقبال وأساليب الحفاوة المادية والمطارحة العلمية على الشناقطة المهاجرين في
بلاد العبور، بل يطال كذلك سكان تلك البلاد أنفسهم.
ب. السكان المحليون
عكست الرحلة الحجية اهتماما كبيرا -ذا أوجه متعددة- بالسكان المحليين. وقد استرعت انتباه الحجاج أوضاع أولئك
السكان، ونظروا اليهم من زوايا مختلفة، فوصفوا طرق العمل وطبيعة النشاط الاقتصادي، كما توقفوا عند البنية الجسدية، وشكل البشرة واللبس والتقليعات السائدة4 ومصادر العيش، وطرائق المعاملة التي يتلقون بها الزائر الغريب5، وتطلعاتهم المعرفية...
1 - انظر محمد يحيى بن ابوه، الرحلة، مصدر سابق، صص: 84، 85، 99، 100، 101، 103...... 2 - نجد ذلك مطردا خاصة في رحلة محمد المين الشنقيطي (أخر حجاج المدونة) الذي تحدث على مدى الرحلة بكاملها تقريبا عن أبناء عمومة له تجارا ومقيمين. وهو في اعتقادنا أمر طبيعي في ظل الدفع بوتيرة التبادل والتواصل الذي شهده العالم بصفة عامة بعد ظهور وسائل النقل الحديثة. 3 - يقول صاحب طوالع السعود بعد أن عدد الدول التي مر بها الشيخ في رحلة الحج: "وقد ترك [يعني الشيخ] في كل واحد من هذه القطار شيخا مقدما في الطريقة". انظر: عبد الله الش يخ الهادي الس يد مولود فال، طوالع السعود، مصدر سابق، ص72. 4 - انظر الشيخ محمد المين الشنقيطي الجكني، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص 90، 91، 93، 94، 100... 5 - كما نجد مثلا في حديث الشيخ محمد المين الشنقيطي الجكني عن الحاج الكيدي توره التاجر الذي نزل ضيفا عنده في انيامي والذي وصفه بأنه "رجل كري السجايا والطبائع: فيه نفع للمار به من عامة المسلمين". انظر: رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص 93- 94.
6
ولئن كنا لا نجد تفصيلا يذكر في الرواية المتداولة عن أولى رحلات المدونة (رحلة الش يخ س يدي مولود فال) من هذه
الناحية، فان الحديث عن مستوى الاكرام والحفاوة التي كان يتلقى بها في مختلف البلدان له دلالته1على مستوى خطاب العبور، وكذلك في مستوى عبور الخطاب الحجي.
ثانيا. عبور الخطاب
نقصد بعبور الخطاب -كما ألمحنا أعلاه- جميع الطرائق والليات التعبيرية التي تتجاوز مستوى الوصف والاستطلاع
الذي شكل مدارا لخطاب العبور الى قياس المنافع والمزايا التي تتحقق للحاج عبر رحلة الحج. فمدار عبور الخطاب بهذا المعنى يكون على مستوى التثمين الضمني أو الصيح للجهد البدني والذهني الذي انتهيى اليه المعراج الروحي المتوج بأداء المناسك واستكمال أركان الاسلام الخمسة، والذي سمح للحاج أن يصبح عنصا مؤثرا من الناحية العلمية والروحية والثقافية في المجتمعات
التي زارها وتفاعل معها، فضلا عن مجتمعه المحلي.
ويمكن أن نجمل الليات التعبيرية التي بنيت عليها استراتيجية التثمين تلك في صيغ مباشرة وأخرى غير مباشرة دارت
بالساس حول العناصر التالية:
1. دوافعالرحلةالحجية
عرف القطر الشنقيطي -نتيجة بعد الشقة وانقطاع الصلة المنة بالديار المقدسة- فتاوى مسقطة للحج عن أهل الاقلي2
شأن بقية مناطق الغرب الاسلامي3. غير أن تلك الفتاوى كانت تنطلق من اعتبارات تتعلق بوقتها وظروفها مس تحضرة دوما أهمية دعيمة الحج ضمن منظومة دعائم الاسلام. ولعل هذه الوضعية زادت تعلق الشناقطة بأداء هذا الركن وأججت توقهم الى المزارات المقدسة. ومن هنا ظلت نخبة من أهل هذه الديار تشرئب للحج مترقبة أي سانحة تسمح بأداء تلك الشعيرة4، حتى لو اقتضت
ركوب المخاطر ومخالفة رأي النصوح.
1 - كانت حجة الشيخ سيدي مولود فال –كما تبرز أخباره المتداولة لدى مريديه وأحفاده- مناسبة لنشر طريقته الصوفية في مختلف بلدان العبور. انظر:، عبد الله الشيخ الهادي السيد مولود فال، طوالع السعود، مصدر سابق، صص.105-130. 2 - للاطلاع على حيثيات ومسقطات الحج القائمة في البلاد، راجع يحيى ولد البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، نشر: مولاي الحسن بن المختار الحسن، 2009، نواكشوط، المجلد السادس (الزكاة، الصوم، الحج)، باب شروط الحج، صص2441- 2451. 3 - حول مسوغات اسقاط الحج في أقطار الغرب الاسلامي، انظر مثلا باب نوازل الحج في: الونشريسي (أبي العباس أحمد بن يحيى)، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل افريقية والندلس والغرب، تخريج جماعة من الفقهاء باشراف د. محمد حجي، وزارة الوقاف والشؤون الاسلامية بالمملكة المغربية، 1401هـ/1981م، ج1، صص 445-432. 4 - لعل أظهر تعبير عن تعلق الموريتانيين بالحج وتوقهم الى الديار المقدسة، هو الحجيات الشعرية التي راوح أصحابها بين مجرد التعبير عن الاشتياق الى الماكن المقدسة وتعدادها، وبين تصور المشهد الحجي ذاته. انظر مثلا:
7
وبالرغم من خصوصيات كل تجربة حجية عن غيرها في الحيثيات والدوافع، فان معظم ما رصدنا من حجيات تكاد تتفق
على أن الدافع الول للحج، هو الدافع الديني البحت1.، أي أداء هذه الشعيرة أو "القاعدة الكبيرة"2التي تشكل الركن الخامس من أركان الدين الاسلامي.
غير أن محاورة النصوص التي رجعنا اليها والخبار التي ترد على ألسنة بعض من حاورناهم حول حجيات غير مكتوبة،
تبرز تغلغل مقاصد، لا تتنافى بالقطع مع المقصد التعبدي، لكنها توازيه وتحضر الى جانبه بشكل لافت لا يمكن تجاهله ضمن دوافع وغايات -أو لنقل- "منافع" الرحلة الحجية على المستويات الدينية والعلمية وحتى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية...3
ولعلنا لا نجافي فحوى الخطاب اذا قلنا ان استحضار الدوافع والغايات الدينية والعلمية... هو نوع من التأكيد –ولو من
طرف خفي- على كون امكانية الحج في تلك الفترة متوقفة على قوة الدافع وصدق النيات.
2. المشهدالحجي
تبرز الرحلة الحجية –حتى من خلال خطاب العبور- عظم الهدف الذي يستحق تكبد مشاق الرحلة، متوقفة عند
مشهد الحج بتفصيل لافت فيما يخص المناسك بدءا بالاحرام (طبيعة وميقاتا وأفعالا وأقوالا)، مرورا بمراس ي الطواف والسعي في القدوم ومراس ي التروية والوقوف بعرفة والنفرة الى المزدلفة وأيام منى وانتهاء بطواف الوداع.ونجد التفصيل ذاته في المزارات وخاصة
بالمدينة المنورة 4
✓ محمذن بن أحمد بن المحبوبي، أدب الرحلة في بلاد شنقيط خلال الق نرين الثالث والرابع عشر الهجري (مقاربة وتنظير)، بحث لنيل دكتوراه السلك الثالث، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1995، صص.49-56.
✓ وكذلك مقالنا حول: "الحج في الشعر الموريتاني: قراءة دلالية في مدونة الوسيط" (صص. 667-690) ضمن: أعمال الندوة الاسلامية الكبرى للحج: "مكة المكرمة عاصمة الثقافة الاسلامية 2 لس نة 1424"، منشورات وزارة الحج السعودية، جدة/العربية السعودية.
1 - سواء أتم التنصيص على هذا المقصد أم لا، فهو بين من العنوان ذاته (رحلة الحج)، وهو عنوان تلك الرحلات (ما عدا رحلة الشيخ محمد يحيى بن ابوه الذي سمى رحلته "الرحلة الى الحجاز")، رغم أنها محطات تنقل بين أقطار ومناطق عديدة، وقد صرح بأنها رحلة حج، بل أكد على أنه كان يتوق دائما، الى الحج وأنه لما لقي بعض الحجاج واستوثق من امكانية تحقيقه دون التعرض للمهالك عقد ورفيقه العزم عليه لكنهما أبقيا على سرية الموضوع خشية "شياطين الانس" ممن يحاولون ثني الانسان عما صمم عليه.
انظر: الشيخ محمد يحيى بن ابوه، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق، صص 78- 79. 2 - محمد المين الشنقيطي، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، ص 41. 3 - يلخص الشيخ محمد يحيى بن ابوه أهم تلك المنافع في أول محطات رحلته بقوله "[...] فانتشر علينا من فضل الله تعالى، على ما كان منه، ما لا يحصى قوتا ولباسا وعلما وافادة واستفادة"، الشيخ محمد يحيى بن محمد المين بن ابوه اليعقوبي الشنقيطي، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق، ص77. 4 - نكتفي هنا بالاشارة الى الحيز الذي احتله المشهد المنسكي بمكة في رحلة محمد المين الش نقيطي، حيث امتد على خس وعشرين صفحة. ولو وصلنا النص كاملا لربما كان مشهد المزارات بالمدينة المنورة أكثر استفاضة. انظر: الشيخ محمد المين الشنقيطي، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص.255-280.
8
ومع أن عوامل نفسية تتعلق ببعد الشقة ومصاعب الرحلة المشار اليهما سابقا، تجعل التوقف عند هذه التفاصيل من
أكبر المتع التي لا يمل الانسان من استدعائها مرة بعد مرة حتى يستعيد اللحظة الحجية ذاتها؛ مع ذلك فاننا نعتقد أنها شكلت استراتيجية -واعية في أغلب الظن- لتشويق من لم يقوموا بعد بهذه التجربة، وحفزهم على المغامرة في سبيل تحقيق حلم الحج الذي
يراود كل مسلم.
فالتركيز على هذه المشاهد يبدو لنا اغراء بما سيحسه الانسان من متعة وهو يتماهى مع المكان والزمان النبوي في لفتة
تربوية لا تخطئها عين المتفحص لما يثوي خلف السطور من ايحاء بأن تجربة الحج أصبحت ممكنة بشرط امتلاك تصمي كالذي امتلكه أصحاب الرحلات من جهة، ومن تلميح الى المنافع الجمة التي قد تتحقق للانسان عبر هذه الرحلة من جهة ثانية.
3. منافعالرحلة
بالرغم من الحضور الطاغي للمشاق والمصاعب التي تعرض خلال مسار رحلة الحج، فان هناك لمحات -تتفاوت من
حيث المساحة النصية والقوة التعبيرية لدى هذا الحاج أو ذاك- تبرز منافع يجنيها الحجاج من وراء تلك الرحلة، قد تتجسد على المستوى المادي وما يتيسر للحاج من كرم الوفادة وسخاء الهبات1. وقد تتعلق تلك المنافع بما يتهيأ له من اكتساب علاقات طيبة مع هذا الطرف أو ذاك، وقد تتعلق بالتمتع بالمجالس العلمية2، أو الاعتراف بالمكانة السامقة والنجاح في بث الدعوة الى الله في
مناكب الرض...
وخارج المتن الحجي الضيق يمكن ملاحظة المكانة التي يكتسبها كل من حج من أهل هذه الديار الشنقيطية، وذلك من
خلال الخبار المتداولة عن الاحتفاء بالحجاج، وكذلك الشعار التي كانت تلقى في الاحتفائيات التي تقام لهم. ولعل المكانة التي الاجتماعية التي يكتس بها الحاج في مجتمعه بعد العودة من رحلة الحج، هو ما جعل السلطات الاس تعمارية تضع ضمن لائحة المعلومات
التي تطلبها في ورقات الاس تعلامات خانة خاصة حول ما اذا كان الشخص ممن س بق له أن سافر الى الديار المقدسة3.
ويتأكد هذا التفسير اذا لاحظنا حرص الفرنسيين على تسهيل الحج - عبر المسارات الحجية التي تقطع الصحراء الشنقيطية- لعوانهم4 في المنطقة حتى يحملوا لقب الحاج لما يترتب على هذا اللقب من نفوذ ووجاهة في المجتمعات الصحراوية عموما والشنقيطية بوجه خاص.
1 - تنوعت الهبات التي تلقاها الحجاج خلال مسار الحج (كتب، مبالغ مالية، حيوانات...)، غير أن أغلبها كان متعلقا بالراحلة أو ما يعين عليها مثل الجمال وتذاكر السفر... 2 - خصص الشيخ محمد المين الشنقيطي مثلا مساحة من نص رحلته بلغت سبع صفحات لـما سماه "مذاكرة أدبية" ضمنها مهاجاة الشاعرين العربيين جرير (ت. سنة 110 هـ) والخطل (ت. سنة 89هـ) يوم عرفة بالقرب من مسجد نمرة. انظر: الرحلة الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص.270-276. 3 - انظر: محمدو امين، المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر (قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية)، معهد الدراسات الافريقية، جامعة محمد الخامس/الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، 2001، ص.115. 4 - يجسد ابن المقداد (المختار سك) نموذجا ناجحا لاستراتيجية تكريس النفوذ الرمزي عن طريق الحج واكتساب الثقافة المحلية. انظر:
9
ويرى الدكتور حماه الله ولد السالم أن الحجاج الشناقطة في فترة ما قبل القرن العشرين كانوا يسعون بالساس الى
الاستزادة من العلم في المصار المشرقية والمغربية1. ومع وجاهة أن يحتل المسعى العلمي محل الصدارة لدى الحجاج (وهم بالساس جزء من النخبة العلمية في مناطقهم)، فان تتبع أخبار ونصوص رحلات العينة التي اعتمدناها هنا تبرز أنالحجاج كانوا يعطون من زادهم المعرفي كما يأخذون عن غيرهم، ان لم نقل انهم ينفقون من علمهم أكثر مما يكتسبون2، وأنهم بذلك قد جمعوا في رحلتهم بين
الهداف العلمية والتعبدية والدعوية...
4. نشرالدعوة
استبطنت الرحلة الحجية في المدونة التي رجعنا اليها غايات دعوية،قد تأخذ شكل اس تعداد دائم لنشر المعارف الشرعية
واللغوية المعينة عليها يسفر عن نفسه بشكل صريح حينا، وقد يتراءى عبر التعرض للاستشكالات المعرفية التي تعرض في مناس بات وسياقات شتى أحيانا أخرى3.
ففي هذه النصوص يبدو الحاج كتابا مفتوحا يسارع من يلتقيه الى اشباع نهمه المعرفي منه. وهو ما يترك لدى المتلقي
انطباعا بأن الحاج يخرج من بلده داعيا الى الله مذاكرا في العلم حيثما حل أو ارتحل4.
ومع أن هناك رحلات لم يسجلها أصحابها كتابة، وانما نقلت بواسطة الرواة، فان الذاكرة تركز، في روايتها عن تلك
الرحلات، على البعد الدعوي بالمستوى ذاته الذي تستحضر به الجانب التعبدي. ولعل في رحلة حج الشيخ سيدي مولود فال التي اعتمدناها ضمن المدونة خير تجسيد للاحتفاء بالبعد الدعوي وما حققه من سفارة علمية وروحية على امتداد مسار الرحلة
الحجية5.
L. Gillier, La pénétration en Mauritanie, Paris, Paul Geuthner, 1926, p.80.
1 - حماه الله ولد السالم، الاسلام والثقافة العربية في الصحراء الكبرى، دار الكتب العلمية- بيروت، 2010، ص118.
2 - نعتقد أن الاحساس بالتصدر العلمي هو ما جعل محمد المين الشنقيطي ينطلق من السئلة التي تطرح عليه في كل محطة يأتيها. انظر: الرحلة الى بيت الله الحرام، مصدر سابق. 3 - من الجدير بالملاحظة أن الرحلتين المكتوبتين خصصتا معظم النص للمسائل العلمية التي عرضت أثناء رحلة الحج من جهة، وأن فهرسهما كان مبنيا على أساس تلك القضايا من ناحية ثانية. 4 - يبدأ مسار نشر العلم ودعوة الحق منذ أول محطة، ليستمر على امتداد الرحلة. يتضح ذلك في الرحلات المكتوبة من خلال التوقف عند المجالس العلمية وطبيعة المسائل المعرفية التي طرحت عليه والس ئلة التي وجهت اليه في كل محطة. انظر:
✓ الشيخ محمد يحيى بن ابوه، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق. ✓ الشيخ محمد المين الشنقيطي، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق.
5 - تركز الرواية (في بعديها المحلي لدى العائلة والمريدين، ولدى التباع في مناطق عبور الرحلة) على الانتشار الذي حققته الدعوة على يد هذا الش يخ في المناطق التي مر بها ويتجسد ذلك في انتشار سند الطريقة التجانية المتصل به في تلك المناطق. انظر الملحق رقم 2 من هذا البحث.
10
وبالنظر الى بروز هذا البعد الدعوي في الرحلات الحجية والالحاح عليه–تصيحا أو ايحاء- فليس من المستساغ في
اعتقادنا أن يكون ذلك الالحاح على الهدف الدعوي مجرد تزكية (ذاتية أو غيرية) لذلك الرعيل من الحجاج، وانما يتضمن –في تصورنا- ايحاء لمن لم ينخرطوا بعد في هذه التجربة بتعدد أوجه التعبد في الحج استكمالا لركان الاسلام بالحج، ونشرا للدعوة
المحمدية، واضطلاعا بالسفارة لدى الشعوب الخرى.
5. السفارةالعلمية
اضافة الى ما يبرزه الخطاب الحجي من منافع دينية ودنيوية، فان هذا الخطاب يستبطن تعبيرا عن احساس –صريح
حينا وضمني في أحايين- بأن اللقاءات التي تجمع الحاج الشنقيطي بغيره ممن يلقاهم عبر محطات مساره، تبرز تقديرا وتكريما لدى مختلف طبقات المجتمع1، مما يتوخى أن يخلق لدى الحجاج المحتملين توقعا مشجعا على خوض تجربة الحج باعتبار أن أولئك الحجاج تركوا انطباعا طيبا سينسحب –غالب الظن- على أبناء جلدتهم. وهذا الانطباع هو ما سماه الدكتور حماه الله ولد السالم "صورة
الشناقطة اللماعة"2، التي أسسها ذلك الرعيل.
ونجد لدى الشيخ ولد ابوه تصورا متكاملا عن طبيعة السفارة التي يقوم بها الحاج، والهدف منها، وحدودها، وقيمتها
بالنس بة لمن يتحدث عنهم... منذ المقدمة التي صدر بها رحلته. يقول: "لما سارت بي القدار الى غير مسقط رأسي، وأبعدتني من أهلي وناسي، احتجت الى أن أكتب نبذة من أخباري، وأخبار الرض التي نشأت فيها، وأخبار علمائها وأوليائها وظرفائها وأدبائها،
وجملة من نظمهم ونثرهم..."3
ومن اللافت في هذا الصدد درجة استحضاره للخر المتلقي، وحاجته الى من يقدم له المجتمع الاسلامي في المناطق
النائية عنه من دار الاسلام، فضلا عن حاجة الكاتب نفسه لن يعرف بنفسه من خلال التعريف بطبيعة المجتمع الذي عاش فيه، والتربية العلمية والروحية التي استقى منها... ولا يبدو لنا التركيز على الجوانب العلمية والدبية في سياق تقدي ابن ابوه لقومه
منفصلا عن التأكيد على المستوى العلمي الذي يعد من مقومات الحاج.
ومن الواضح هنا أن الش يخ -وهو بعد في صدر رحلته- ينطلق من يقين بتركيب المسار الذي س يقطعه بعيدا عن (أهله
وناسه) من جهة، لكنه يركن من ناحية أخرى الى احساس قوي بأن رحلته س تكلل بالوصول الى هدفها رغم التعرجات والمشأكل
1 - اتفقت جميع الرحلات الحجية التي اطلعنا عليها (داخل المتن الضيق لهذا البحث وخارجه) على ابراز مستوى التكري الذي لقيه الحجاج باعتباره أحد بركات الحج، بدرجة تجعله لازمة يتم الحديث عنها في كل محطة. وذلك اما بتفصيل الهبات التي يتلقونها واما بذكر الاكرام مجملا (أو استنقاصه اذا وجدوا أنه لم يكن في المستوى).
2 - الدكتور حماه الله ولد السالم، الاسلام والثقافة العربية في الصحراء الكبرى، مرجع سابق، ص 118. 3 - الشيخ محمد يحيى ابوه، الرحلة الى الحجاز، مصدر سابق، ص 7.
11
التي يتوقعها. وسيحكي عنها كما يحكي عن قومه (والرض التي نشأ بها)، وأن هذا الحكي جزء من سفارته العلمية والثقافية التي يتعين عليه القيام بها. ولذلك ركز على ما يتضمنه عمله "من تحريرات وتدقيقات ومنظومات وقصائد وغير ذلك"1.
ويبدو أن استراتيجية الخطاب في هذا المستوى تعتمد بدرجة قوية على دحض غير مباشر لكل خطاب مثبط، وذلك
من خلال تقدي النموذج الحي المتمثل في نجاح أصحاب الرحلات على المستويات العلمية والروحية والانسانية، فضلا عن تحقيق الهدف الساس وهو الحج ذاته والعودة الى الهل والديار بالسلامة والغنم (المادي والمعنوي) لمعظم من أراد العودة.
ولعل من أبرز مقصديات هذا الخطاب تكريس احساس بعظم المسؤولية العلمية والخلاقية التي يتعين على الحاج
تحملها، وهو ما يقتضي ترتيبا وتهييئا ذاتيا يستهدف الاعداد النفسي والعلمي باعتبار أن الحاج لا بد أن يستكمل –وهو مقبل على خوض غمار الرحلة الحجية- عدته العلمية التي بها يس تحق مثل ذلك التكري والعون الذي لقيه أسلافهم من أصحاب تلك الرحلات.
ذلك أن الحاج ما لم يستكمل تلك الشروط، فلن يفرض نفسه على المجتمع الذي سينخرط فيه، وهو بالساس مجتمع
علمي2 يمكن بشيء من التجوز أن نسميه مجتمع النخبة في البلدان الاسلامية بمختلف تشكيلاته من فقهاء ومثقفين وحتى مسؤولي ادارات حدودية من الجانب. لذلك فان تقدير الحاج يتأسس على عدته العلمية والخلقية قبل أي شيء أخر. ولعل تواتر الحجيات
على تخصيص حيز مهم لهذا البعد من أبرز الحجج على أنه شكل أحد مقصديات القول البارزة في الرحلة الحجية3.
الخاتمة
انطلاقا من العناصر السالفة يمكننا القول ان الرحلة الحجية قد أعادت بمضامينها ومقصديات الخطاب فيهاطرح قضية
الحج –بالنسبة للشناقطة- على المستويات الدينية والاجتماعية والمعرفية...في ضوء مؤشرات خارجية يتعين انطلاقا منها، اعادة ترتيب المسألة في ظل مستجدات المناخ السلطوي والمني.
1-المصدرذاته،صص7-8. 2 - تبرز الخصومات التي شارك فيها الحجاج الشناقطة على مدى الق نرين التاسع عشر والعشرين وخاصة حول مسألة أوقاف الحجاز مستوى وطبيعة المجتمع العلمي الذي انخرطوا فيه. انظر: د. محمد صالح بن حامد سيد أحمد، هجرات المغاربة من دول شمال افريقيا الى الحجاز وأثرها على المجتمع الحجازي في القرن التاسع عشر الميلادي (صص 431- 477)، ضمن حركة الانسان والعمال بين دول الخليج والمغرب العربي (بحوث المؤتمر العلمي الخليجي المغاربي الرابع)، ص 464- 466. 3 - لعل من الدال في هذا الصدد أن أصحاب الرحلات المكتوبة بوبوها على أساس القضايا العلمية التي طرحت وأفتوا فيها عند كل محطة من محطات الطريق، وليس انطلاقا
من تلك المحطات نفسها. انظر: ✓ الشيخ محمد يحي بن ابوه، الرحلة الحجازية، مصدر سابق، صص.143-146. ✓ الشيخ محمد المين الشنقيطي، رحلة الحج الى بيت الله الحرام، مصدر سابق، صص.285-287.
12
انها بهذا المعنى، ترفع –من بين مقصديات أخرى- تحدي تجديد الخطاب الفقهيي حول مسألة الحج انطلاقا من تجدد
الليات وتوفر وسائل أمنة لعبور السبل دون التعرض لقطاع الطرق أوغير ذلك من المخاطر التي كان يخشى منها على سلامة الرواح والممتلكات، مما كان وراء رواج القول بسقوط الحج عن أهل هذه الديار.
وفضلا عن المقصديات التي و ّجهت وبنت مقاصد وصيغ الخطاب الخاص بالشناقطة أنفسهم (في اطار سجال فقهيي
شمل منطقة الغرب الاسلامي كلها تقريبا في فترة من الفترات)، تتبدى الرحلة الحجية الش نقيطية وس يلة تواصل ثقافي وتعاط علمي وروحي، بما جسدته من اغناء لتجارب الحجاج، وما كرسته من تبادل وتثاقف أخذ فيه الحاج وأعطى، مما انعكس في اتصال السند بين أصحاب تلك الحجيات وبين سكان القطار التي عبروها مجسدا في الطرق الصوفية والفتاوى والاجازات والسانيد....
ولقد عكست الحجيات طبيعة المشاغل الدينية والمعرفية، والوضاع الس ياس ية والمعيش ية على مدى المسار الذي سلكه أصحاب الرحلات. وبذلك تكون هذه الرحلة عاملا من عوامل توحيد القارة على الصعد الثقافية والعلمية والروحية والانسانية وأساسا من أسس وحدتها السياسية التي تشكل الى اليوم أمل الشعوب الافريقية، كما مثلت أداة للتلاحم مع بقية مسلمي العالم من خلال تعاطي الحاج الشنقيطي مع مختلف النخب والاسهام في الحراك الثقافي والديني والروحي الذي كانت تمور به المنطقة
الاسلامية والعالم خلال القرنين الماضيين.
13
الملحقات:
الملحق الول: نموذج من خط سير الحجاج
خط سيررحلة محمد يحيى ولد أبوه من بلاد شنقيط إلى الحجازعبرأقطاروسط إفريقيا المصدر: محمد يحيى بن محمد الأمين بن ابوه، الرحلة إلى الحجاز، ص.243.
14
15

الملحق الثاني: نموذج من التواصل الديني
السند الصوفي للشيخ سيدي مولود فال الشنقيطي
المصدر: عبد الله الشيخ الهادي السيد، طوالع السعود، صص.184-185.
16
البيبليوغر افيا
✓ ابن المحبوبي (محمذن بن أحمد)، أدب الرحلة في بلاد شنقيط خلال القرنين الثالث والر ابع عشرالهجري (مقاربة وتنظير)، بحث لنيل دكتوراه السلك الثالث، جامعة محمد الخامس،الرباط،1995.
✓ أحمد عبد الدايم (محمد حسين)، وسط إفريقيا ملتقى الهجرات العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ضمن دراسات تاريخية مهداة للعالم والمؤرخ والإنسان الأستاذ الدكتور/ السيد فليفل، جامعة القاهرة، 2013.
✓ بنت عبد الوهاب (فاطمة محمد محمود)، "الحج في الشعر الموريتاني: قراءة دلالية في مدونة الوسيط" (صص.667-690) ضمن: أعمال الندوة الإسلامية الكبرى للحج: "مكة المكرمة عاصمة الثقافة الإسلامية 2 لسنة 1424، منشورات وزارة الحج السعودية،
جدة/العربية السعودية. ✓ الشنقيطي (محمد الأمين الجكني)، رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، دار الشروق، جدة،
1983. ✓ مولود فال (عبد الله الشيخ الهادي السيد)، طوالع السعود في حياة ومناقب غلام التجاني
أبي السعود، تحقيق وتقديم الشيخ التجاني بن الشيخ الهادي بن سيدي مولود فال، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 2008.
✓ ولد البراء (يحيى)، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، نشر: مولاي الحسن بن المختار الحسن، 2009، نواكشوط، المجلد السادس.
✓ ولد السالم (حماه الله)، الإسلام والثقافة العربية في الصحراء الكبرى، دار الكتب العلمية- بيروت، 2010.
17
✓ ولد امين (محمدو)، المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر (قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية)، معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس/الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، 2001.
✓ الونشريس ي (أبي العباس أحمد بن يحي)، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والغرب، تخريج جماعة من الفقهاء بإشراف د. محمد حجي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، 1401هـ/ 1981م، ج1.
✓ اليعقوبي (محمد يحيى بن محمد الأمين بن ابوه الشنقيطي)، الرحلة إلى الحجاز، دار الرضوان، نواكشوط- موريتانيا.
✓ L. Gillier, La pénétration en Mauritanie, Paris, Paul Geuthner, 1926.
18